أين أنتي يا إرم يا ذات العماد؟

لقد شغلت مملكة إرم عاصمة قبيلة عاد حيّزاً كبيراً من إهتمام العلماء والباحثين والمؤرخين، وبذلوا في معرفة مكانها الكثير من الوقت والجهد والمال.

وما من شكٍّ أن إرم استمدت عظمتها وأهميتها، مما ورد في القرآن الكريم عن صفتها، حيث قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)

فهي ذات العماد لكثرة أعمدتها، كما أنه لم يخلق مثلها في البلاد، لحسنها وجمالها وإتقان بنائها.

كما جائت الإشارة إلى ذلك أيضاً في قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) فهي آية، أي: أعجوبة من العجائب.

كما أنها أبنية قويّة ومتينة، وقادرة على مقاومة العوامل الطبيعية، حتى يخيل إليك أن من بناها كان يعتقد بأنه سوف يكون خالداً كما قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) والمصانع، هي الأبنية القويّة المتينة.

لقد أخذ الباحثون يتخبطون في تحديد مكان إرم ذات العماد، لعدم وجود نصّ صريح في القرآن أو السنّة يوضّح وبجلاء أين هي إرم ذات العماد، وكل ما ورد في القرآن عن مكان إرم، أنها بالأحقاف، ولكن أين هي الأحقاف؟ فلا يوجد في جزيرة العرب موضع بهذا الاسم.

وكأن الله تعالى إنما أشار إلى وصف بلادهم، لا لاسمها، إلّا أن تكون الأحقاف اسم الموضع الذين كان يعيش فيه بنو عاد، ثم تغيّر اسمه مع مرور الوقت، فاشار الله إلى موضعهم، بما كان يعرف به في زمانهم!

والحِقف وصف يطلق على كل ما إنحنى وإعوج من رمل أو جبل، وبما أن وصف بلاد عاد جاء بصيغة الجمع، فهذا يعني أن منازل قبيلة عاد إما تكون أرض جبلية أو أرض رملية.

ولكن في القرآن ما يشير إلى أن بلاد عاد كانت أرضاً جبليّة، نجد ذلك وبصراحة في قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) والريع، وجمعه: ريعان، وصف لا يطلق في لغة العرب؛ إلا على المناقب التي تكون في المناطق الجبلية.

قال ابن منظور في لسان العرب: "والرِّيعةُ والرِّيعُ والرَّيْع: المَكان المُرْتَفِعُ، وقيل: الرِّيعُ مَسِيلُ الوادي من كل مَكان مُرْتَفِع .. والجمع أَرْياعٌ ورُيُوع ورِياعٌ، الأَخيرة نادرة .. والرِّيعُ: الجبل، والجمع كالجمع، وقيل: الواحدة رِيعةٌ، والجمع رِياعٌ .. والرِّيعُ: السَّبيل، سُلِكَ أَو لم يُسْلَك .. والرَّيْع: الطريق المُنْفَرِج عن الجبل؛ عن الزَّجاج، وفي الصحاح: الطريق ولم يقيد .. وقوله تعالى: أَتَبْنُون بكل رِيعٍ آية، وقرئَ: بكل رَيْع؛ قيل في تفسيره: بكل مكان مرتفع. قال الأَزهري: ومن ذلك كم رَيْعُ أَرضك أَي كم ارتفاع أَرضك؛ وقيل: معناه بكل فج، والفَجُّ الطَّريق المُنْفَرِج في الجبال خاصَّة، وقيل: بكل طريق" اهـ

وعلى هذا فالأحقاف المراد بها في القرآن هي أحقاف جبيلة وليست رملية، مما يؤكد لنا، أن ما يشاع من أن الأحقاف التي كان يحلها بنو عاد هي الرمال الممتدة من بين حضرموت وعمان، قول باطل، وليس بصحيح.

ولأني أريد أن أعطي القارئ تصور كامل للمسألة، وما قيل فيها من أراء، فسوف نعرض جميع الأقوال التي قيلت في تحديد موضع إرم ذات العماد، ثم نرجّح ما نراه صواباً منها:

وقبل أن نشرع في ذكر الأقوال، نريد أن نحدّد مميّزات مدينة إرم ذات العماد التي وردت في القرآن الكريم، لنقوم من خلالها بتحديد أي الأقوال هو الصواب، وإذا رجعنا إلى القرآن وجدنا أن مدينة إرم تتّصف بعدة صفات وهي:

أولها: أنها مدينة ذات أعمدة كثيرة، قال تعالى: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)

وثانيها: أنها مدينة جميلة خلّابة، قال تعالى: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)

وثالثها: أن لها قرى تتبع لها منتشر في أصقاع متعددة وليس محصوراً في حدود مدينة إرم ذات العماد، قال تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)

ورابعها: أن مدينة إرم ذات العماد وتوابعها من القرى، قويّة البنيان قادرة على تحمل العوامل الطبيعية، قال تعالى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)

وخامسها: أن قريشاً في رحلاتها التجارية، كانت تمر ببلاد عاد، وقراها، كما كانت تمر ببلاد ثمود، وكانوا يرون مساكنهم، وما حل بهم، فقال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ)

وسادسها: أن مدينة إرم وتوابعها من القرى مبنيّة في مناطق جبلية، أو تكثر فيها الجبال، بدلالة قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) والريع، وصف لا يطلق إلّا على المناطق الجبلية كما قدّمنا.

وتتلخص أراء الباحثين والخبراء في تحديد موقع إرم ذات العماد في ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها قلعة أوبار، الواقعة في منطقة الشصر، بصحراء ظفار، بحضرموت، حيث عثر مؤخراً في تلك المنطقة، على قلعة ثمانية الأضلاع سميكة الجدران بأبراج في زواياها مقامة على أعمدة ضخمة يصل ارتفاعها إلي تسعة أمتار وقطرها إلى ثلاثة أمتار.

وهذا القول باطل، فهذه القلعة لا تتحلى بأي صفة من صفات مدينة إرم ذات العماد، فهي ليست سوى قلعة حربية أقيمت على شاطئ بحر العرب، زيادة على أن جميع ما عثر عليه من مقتنيات أثرية داخل هذه القلعة، تم التأكيد على أنه تمت صناعته في العصور الإسلامية، مما يجعلنا بعيدين كل البعد عن التصديق بأن تكون هذه القلعة البسيطة هي إرم ذات العماد، المدينة العظيمة التي لم يخلق مثلها في البلاد.

والقول الثاني: يرى أنها كانت جنوب الأردن، حيث يوجد في تلك المنطقة جبل كبير يدعى: إرم، وقد أطلق على الوادي الذي يمر بحذائها اسم: وادي إرم، وفي طرف الوادي بئر أطلق عليها نفس الاسم، وتعرف ببئر إرم.

قال الهمداني في صفة جزيرة العرب: "وبحسمى بئر إرم من مناهل العرب المعروفة" اهـ

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان : "إرم: بالكسر، ثم الفتح .. وهو اسم علم لجبل من جبال حسمى من ديار جذام، بين أيلة وتيه بني إسرائيل، وهو جبل عال عظيم العلو، يزعم أهل البادية أنّ فيه كروما وصنوبرا. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كتب لبني جعال بن ربيعة بن زيد الجذاميين، أنّ لهم إرما" اهـ

ولكن هذا القول ضعيف جدّاً، فلا يتوفر في هذا القول من صفات إرم عاد، إلا الوصفين الخامس والسادس فقط، فلا يوجد في تلك البقعة، أي أثارٍ لمدينة عظيمة كإرم! وقد يكون لقبيلة عاد امتداد إلى هذه المنطقة، ولكن يستحيل القول بأن مدينة إرم، كانت في هذا الموضع، إلّا إذا افترضنا أنها مدفونة في أكوام الرمال التي تحف بجبال الوادي.

وأما الاسم فلا يدل بتاتاً على شيء، لأن العرب كانت كثيراً ما تطلق الأسماء ذاتها التي تطلقها قبائل أخرى على مواردها وجبالها وأوديتها، وبهذا يكون جبل ووادي وبئر إرم في منطقة حسمى جنوب الأردن، ليس سوى أسماء طابقت اسم مدينة إرم ذات العماد.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع إرم، أناساً من قبيلة جذام، وهذا الخبر لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة في الحديث والسيرة، ولكن إن صحّ- وهذا ظنّ - فهذا يدل على أنه لا يوجد علاقة بين هذه الجبل المسمّى إرم، وبين إرم عاد، ولو كانت هذه المنطقة هي حقاً موضع قبيلة عاد، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخليتها، ولحرّم ورود بئرها، كما فعل عندما دخل ديار قبيلة ثمود.

وأما القول الثالث: فيرى بعض الباحثين، أن أهرام مصر والمباني الهائلة، ذات الأعمدة الضخمة، هي إرم، والحقيقة أن تلك المدينة جديرة بأن تكون هي إرم ذات العماد، حيث تطابقت أوصافها مع أوصاف مدينة إرم في أربعة مواضع، ولكنها أختلفت معها في موضعين، وهما:

أن تلك المباني ليست في مناطق جبلية، بل هي في صحارٍ جرداء.

ثم إن هذه المباني ليست في ممر قوافل قريش أثناء ترحالها إلى الشام أو إلى اليمن.

لذلك فالقول بأن تلك المباني هي مدينة إرم ذات العماد، هو الأخر لا يصحّ.

إذاً ومن خلال ما سبق، تبيّن لنا أنه ولا واحدة من تلك المواضع اجتازت الإختبار الذي وضعناه لمعرفة أيهن هي إرم ذات العماد.

ولكن هناك مواضع أخرى، تمتلك المميزات الستّ المذكورة أعلاه، ولكن الباحثين والخبراء يؤكدون على عدم وجود علاقة بينها وبين إرم ذات العماد، فهل كان الباحثون والخبراء مخطئون، أم أنهم تعمدوا تزوير نتائج أبحاثهم في هذه الآثار لأغراض تاريخية ومادية!

فبعد بحث خاص أجريته على المدن الأثرية التي عثر عليها، تفاجئت بأن هذه المميزات الخمس، تنطبق تماماً على ما يسمى بالآثار الرومانية، والنبطيّة، في الأردن والشام وفلسطين، بل عثر على نظيرات لها في أسيا الوسطى، وإيطاليا واليونان والأسبان وشمال أفريقيا. وكلها بنيت في مواضع جبليّة! كما أنها ذات أعمدة كثيرة، ومدن جميلة وخلابة، ومبنيّة بطريقة متينة وقوية.

فأما الآثار التي تنسب إلى الأنباط، فموجودة في البتراء وتدمر وبصرى.

بينما تنسب الآثار التي في جرش وفلسطين وأسيا الوسطى واليونان وإيطاليا وإسبانيا وشمال أفريقيا إلى الرومان!

ولا أدري لماذا اجتزأ المؤرخون - وأكثرهم من الغرب وذوي أصول أوروبيّة - الآثار الموجودة في جرش وفلسطين ونسبوها إلى الرومان ولم ينسبوها إلى الأنباط، ما لم يكن الدافع إدعاء وجود أثر للرومان على أرض العرب! 

فجرش تقع بين البتراء وبصرى، وليس بين جرش وبصرى سوى قريب 35 ميلاً، وبين جرش والبتراء قريب 130 ميلاً، بينما تبعد عن تدمر، التي تعتبر ثاني المدن النبطية - حسب قول المؤرخين المعاصرين - قرابة 300 ميل! مما يؤكد قطعاً أن الأمة التي قامت ببناء البتراء وبصرى وتدمر، هي ذاتها التي قامت ببناء جرش والآثار في فلسطين، سواء كان الأنباط أو قبيلة عاد.

والذي دفعني إلى القول بأن هذه الآثار تعود ملكيتها أساساً إلى قبيلة عاد، أن الأدلة المطروحة لإثبات ملكيّة الرومان والأنباط لهذه المباني ليست قويّة، وإنما هي قائمة على الظنّ والتخمين، وما فيها من شواهد ظاهريّة، لا تقطع بصحة ملكيتها لهذه الأمم.

ومع أن المباني التي يرى المؤرخون أن من شيدها هم الأنباط، تشبه إلى حدٍّ كبير المباني التي يرى المؤرخون أن من شيّدها هم الرومان، إلّا أنهم علّلوا ذلك، بأن الأنباط العرب تأثروا بالفنّ المعماري الروماني، فشيّدوا بنيانهم على طرازها.

والحقيقة أن هذا القول بعيدٌ عن الصحة، لسببين:

الأول: أن هذه المباني في الأردن والشام وفلسطين - أي في البلاد العربيّة - أكثر منها بكثير في بلاد الرومان الواقعة على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، في إيطاليا واليونان، أو في أسبانيا، أو في شمال أفريقيا، وهذا يدل على أن هذا الفن درج من بلاد العرب إلى البلاد الأخرى.

والثاني: أن الرومان من شعوب أوروبّا، وهذه الشعوب أكثرها شعوب بدائية في ذلك الزمان، الذي نشأت فيه مملكة الرومان، إذ أن أكثر تلك الشعوب عبارة عن بادية رحّل، أو يقيمون في بيوت مصنوعة من القشّ، وإنما دخلت الحضارة إلى الرومان، بفعل احتكاكهم بالشعوب المتحضرة المتاخمة لهم في الأردن والشام وفلسطين والعراق ومصر، فإن كان الرومان حقاً هم من قاموا ببناء تلك المباني الموجودة في بلادهم، فهذا يعني أنهم هم من تأثر بالطراز المعماري العربي في جرش والبتراء وتدمر وبصرى وفلسطين، وبنو بنيانهم على شاكلتها.

والذي نجزم به، أن هذه الآثار هي من صنع قبيلة عاد، فجميع أوصاف إرم عاصمة مملكة عاد، وما وصف الله تعالى به العاديّون من العبث في بناء قصورهم، تنطبق على تلك المباني الموجودة في الأردن والشام وفلسطين، وفي أماكن أخرى من العالم.

وأن الأنباط إنما ورثوا هذه البلاد واستوطنوها لما وجدوها خالية من السكان، فنسبت إليهم.

وأما الرومان فإما أنهم أعجبوا بهذا الطراز، فبنوا على شاكلته في بلادهم.

أو أن قبيلة عاد امتد نفوذها ليشمل أسيا الوسطى واليونان وإيطاليا وأسبانيا وشمال أفريقيا، وذلك قبل أن يحل الرومان في تلك البلاد، وأنه وبعد هلاك تلك الأمم العادية، وخلو بلادها من السكّان، قدم الرومان واستوطنوا تلك البلاد، وامتلكوا تلك الصروح الشامخة، وربما بنو على شاكلتها.

ومما يدل على ذلك، أن الرومان كانوا قد احتلوا البيت المقدس، أو ما كان يعرف قديماً باسم: أورشليم، بل كانت هذه المدينة هي مركزهم الأساسي نظراً لمركزها السياسي في ذلك الوقت، فقد كانت عاصمة اليهود، ومع ذلك لا يوجد لهم في تلك المدينة أيّ أثر يذكر، فالآثار العاديّة التي تنسب للرومان توجد في نابلس، وفي سبسطية، وحمّام للاستحمام عثر عليه في النقب! ولنا أن نتسائل، لماذا لم يحدث الرومان أي أثر هندسي في بيت المقدس مع أنها كانت من أهم مستعمراتها، ويوجد بها الكثير من الحامية الرومانية، وهم في حاجة ماسّة إلى قصور، وحمامات، ومسرح، وغير ذلك؟ وليس هناك تفسير لهذا إلّا أن نقول: بأن هذه الآثار لا علاقة لها بالرومان!

ومما يدل على ذلك، هو تأثر الرومان بالحياة الاجتماعية الشرق أسيوية، خصوصاً في الملبس، فإن الزي الروماني، سواء للذكور أو الإناث، يشبه إلى حدّ كبير الطراز الشرق أسيوي، والمنتشر بين الأمم العربية والإيرانية وانتقل فيما بعد إلى الأمم التركية الشرقيّة والسنديّة والهنديّة، مما يدل على أن الرومان كانوا يتأثرون بالحضارات المتقدمة في زمانهم، فكانوا الشعب الأوروبي الوحيد المتحضر من بين مئات أو ألاف الشعوب الأوروبية، التي كانت تعيش حياة أشبه بحياة البهائم، منها إلى حياة البشر العاقل!


إن أقوى الأدلة التي طرحت لإثبات ملكية الرومان لهذه الآثار، هي النقوش الرومانية التي كتبت بالخطّ الروماني، والتي وجدت في بعض تلك الآثار، والحقيقة أن هذا الدليل غير كافي، فكثير من الشعوب إذا ورثت آثار شعوب أخرى، لا بد وأنها سوف تضع بصمتها على تلك الآثار، فقد وجدنا مثلا البيوت الحجرية في مدينة الحِجر، مدينة قبيلة ثمود، قوم نبي الله صالح عليه السلام، عثر فيها على نقوش ثمودية، وأخرى نبطيّة، وأخرى معينية، وأخرى إسلامية، مما يثبت أن الأمم عندما ترث آثار أمم أخرى، فإنها لا بد وأن تضع بصمتها على تلك الآثار، فليس معنى وجود تلك النقوش في تلك المواضع التي وجدت فيها، أنها دليل على أن الرومان هم من قام بتشييدها، ولا أدل على ذلك من أمرين:

الأول: أن المسرح - المعروف بالمسرح الروماني - في أسيا الوسطى، عثر فيه على نقوش بالخط الروماني، وكذلك نقوش باللغة السلجوقية، وذلك أن السلاجقة لما استلولوا على تلك البلاد ورثوا ذاك المسرح، ونقشوا عليه بلغتهم!

والثاني: أن المسرح الموجود في المدينة الأثرية بشمال أفريقيا - ليبيا حاليا - وجد فيه على أثر كتابة رومانية، وقد أكمل عليه بالخط واللغة الليبيّة.

والثالث: أنه عثر في مقبرة اثرية في مصر، والتي يؤكد علماء الآثار على أنها مقبرة رومانية! على منحوتة تشبه المنحوتات - التي يصفها علماء الآثار بأنها رومانية منحوتات رومانية - لصورة امرأة، كتب في اسفلها بخط روماني، وقد اتخذ من هذا دليل أخر على أن منحوتة أو بناء تحمل سمات هذه المنحوتة، هي رومانية الصنع! ونحن لا نهتم بشان هذه المنحوتة، فكما قلنا، أن هناك احتمال كبير أن يكون الرومان اعجبوا بالنمط العادي كما نراه، أو النبطي كما يراه علماء الآثار، وصنعوا منحوتات مثلها، وبنو بنايات مثلها، ولكن اتخاذ مثل هذا دليل على أن الرومان هم من صنعوا جميع المنحوتات والبنايات التي تحمل نفس سمات تلك المنحوتة هو الخطل بعينه، والدليل على ذلك، أنه وجد في تلك المقبرة بعينها على منحوتات مصريّة، لصور الألهة المصرية القديمة، نحت في أسفلها بالخط الروماني، فهل نقول بأن الآثا رالمصرية هي في حقيقتها أثار رومانية لمجرد أن وجدنا الرومان نحتوا كلمات بأحرفهم على تلك المنحوتات؟ طبعا الجواب: لا يكون ذلك، بل في هذا دليل على أن وجود نحت بالخط الروماني على صرح أو منحوتة لا يعني بالضرورة أن تكون من صنع الرومان، وإنما الرومان نحتوا بأحرفهم على آثار موجودة مسبقاً وقبل احتلالهم للبلاد التي قاموا باحتلالها.

فتعليل ذلك عندنا أن هذه المقبرة لم تكن رومانية قطّ وأن الرومان عثروا عليها فجأة فاستخرجوا هذه الآثار ونحتوا عليها شيئا من كلامهم على سبيل التعليق على هذه الصور ومما يثبت ذلك أنه وجد في إحدى الصور التي تخص الآلهة المصرية نفس الكتابات التي وجدت على صورة تلك المرأة مما يدل على أن هذه الآثار مصرية حقيقة وأنها عبارة عن آثار عادية خلطت بآثار فرعونية اظيفت إليها لا حقا فكان من بنا تلك المقبرة جمع ما عثر عليه من آثار لقبيلة عاد وضمها إلى ما لديه من منحوتات مصرية وحفظها في تلك المقبرة فجاء الرومان واستخرجوا تلك المنحوتات واضافوا إليها تعليقاتهم بلغتهم في أسفل تلك المنحوتات، هذا إن لم يكن من جمع هذه المنحوتات من الرومان أنفسهم، عندما احتلوا مصر، فجمع ههذ الآثار ودون عليها ملاحظاته في أسفلها، حيث وجد تلك المنحوتة، التي تشبه بشكل متطابق، تلك المنحوتات الموجودة في بلاده.


فإذا كانت هذه الآثار التي في الأردن والشام وفلسطين، حقاً لقبيلة عاد، فإنه يوجد أكثر من موضع، يمكن أن يكون هو إرم عاصمة مملكة عاد، خصوصاً الأثار الموجودة في جرش، والبتراء، وتدمر، وأما باقي الأثار فلا تحمل من الأبهة والعظمة والجمال ما يؤهلها أن تكون إرم ذات العماد، فإحدى هذه المدن هي إرم ذات العماد، والبقيّة عبارة عن مدن تابعة لها، فقبيلة عاد قبيلة كبيرة، ذات أفرع، ومن المستحيل أن تقيم في مكان واحد، بل لا بد أن يكون لها امتداد في أماكن أخرى، وتسيطر على مناطق شاسعة، تكون خاصة بأفراد تلك القبيلة وما يتفرع منها من أفرع صغيرة، لذلك كانت هناك عاصمة يقيم فيها الثقل الأكبر من القبيلة، بينما تتواجد أفرع أخرى في أماكن أخرى مجاورة، وعلى هذا فقبيلة عاد تسيطر على عدة مدن وليست مدينة واحدة، فإحدى هذه المدن هي مدينة إرم عاصمة مملكة إرم، التي تسيطر عليها قبيلة عاد.

وبعد إمعان النظر في هذه المواقع الثلاث، فإني أرشّح جرش لأن تكون هي إرم ذات العماد، وذلك أن أوصاف هذه المدينة تنطبق تماماً مع أوصاف مدينة إرم ذات العماد، عاصمة مملكة إرم.

فعندما رأيت الآثار العتيقة، للمدينة الأثرية، التي بنيت عليها مدينة جرش الأردنية، أخذني العجب من بنيانها وهيئتها. وأكثر ما شدني في تلك المدينة، هي كثرة أعمدتها، حتى سميت مدينة الألف عامود، فكان أول ما جال في خاطري هو قوله تعالى: (إرم ذات العماد) وإنما وصفت بذلك، على الأرجح لكثرة أعمدتها.

إلا أنه أعترض مسار هذا البحث ما تم إعلانه سنة 2014 ميلادي، حيث تم الإعلان عن العثور على حجر أثري، في الآثار الموجودة بمدينة جرش - والتي يرجح كاتب هذه السطور أنها مدينة إرم ذات العماد - عثر في هذا الحجر المزخرف على كتابة بالخط الروماني ينص فيها على اسم مهندس إحدى المعابد الوثنية الذي اطلق عليه اسم: زيوس، في جرش، والذي ذكر في النص باسم: ثيودور زبيداس الجرشي! ويذكر اسم المتبرع ببناء المعبد باسم: ديوميتريوس! والذي وصفه الآثاريين بأنه من طبقة النبلاء في مدينة جرش! والحقيقة أنني كدت أن أضعف أمام هذا الخبر لولى أنني آثرت التريث للتحقق من صحة هذا الخبر، فليس كل خبر يتم الإعلان عنه يكون بالضرورة صحيحاً، خصوصاً مع من لديه أطلاع كاف ومعرفة تامة بمدى التلاعب الذي يصنعه الآثاريون، فبعضهم قد يتعمد تزوير الآثار، حتى لا ينقطع الدعم المادي، الذي تغدقه عليهم الجهات البحثيّة في الغرب، بل ربما تم تزوير الآثار من قبل الجهات البحثيّة، لأسباب تاريخية أو اجتماعية.

أخذت أشاهد هذا الخبر عدة مرات، فكان مما استوقفني في هذا الخبر أسماء سكان مدينة جرش، فالمهندس أسمه: ثيودور زبيداس الجرشي، واسم المتبرع ببناء المعبد باسم: ديوميتريوس! وهذه أسماء رومانية محضة! ولعل سائلا يقول: وماذا في ذلك؟ والجواب: أن جرش باتفاق جميع المؤرخين هي مدينة عربية منذ نشأتها، وسكانها هم العرب، بل إن اسم مدينة جرش اسم عربي.

وقد سميت بها بعض المدن في جنوب الجزيرة العربية، ومن المعلوم أن غالب القبائل العربية التي استوطنت الشام هي قبائل من الأزد وقضاعة، وقد ذكر هيرودوست وهو الذي كان حياً - حسب الروايات الغربية - في القرن الخامس قبل الميلاد، أن العرب كانت لهم مملكة قوية في الشام في زمانه، أي قبل 1000 سنة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، و 2400 سنة من الآن، وهذا يدل على أن العرب استوطنوا تلك الديار قبل زمن هيرودوست بزمن طويل، أهَّلهم فيما بعد لتكوين مملكة قوية في زمنه، ولا شك أن جزءاً من العرب، عندما حلّ في موضع مدينة جرش، وأسسها، أطلق عليها هذا الاسم العربي، والتي ضلت قائمة منذ ذلك اليوم إلى زماننا.

فثبت إذاً أن من أسس مدينة جرش هم العرب، وبهذا نجزم ببطلان قول من يزعم أن الرومان هم أول من أسس هذه المدينة ثم استولى العرب عليها بعد ذلك.

فإذا كانت جرش منذ تأسيسها قبل أكثر من 1000 عام من بعثة النبي و 2400 سنة من زماننا، وهي عربية، مع أول نزول للعرب في الشام، واستمرت جرش في أيدي العرب إلى اليوم! فكيف يكون سكانها من الرومان؟!

قد يقول قائل: لعل الرومان الموجودون في جرش هم عبارة عن حامية وموضفون رومان لضمان تبعية هذه المدينة للرومان! والجواب: قد يكون هذا صحيحاً ولكن يعترض على هذا كون المباني التي يدعى أنها للرومان تؤكد على أنها كانت مدينة ضخمة وقوية، بينما لو كان الأمر كما تقولون فالحاميات لن تؤسس مدينة بأكملها، بل سوف تؤسس ثكنة عسكرية أو ما شابه كما هي عادة الرومان، فلن يكون هناك مهندسون وتجار وأصحاب صنائع وما شابه من الرومان؛ لأن هذه الطبقات من المجتمع سوف تكون مقتصرة على أبناء المدينة المحتلة نفسها، ومن خلالهم يتم انتزاع الضرائب وإرسالها إلى روما لتزداد ثراءً وقوة، فروما لم تأتي إلى هذه البلاد لتتخذ منها محل سكنى وتقوم بتطويرها وتعمل على ازدهارها والتحسين من أوضاع أهلها المعيشية، بل جاءوا كجامعي ضرائب شأنهم شأن غيرهم من الأمم.

إذا ما قصت هذا الحجر؟ الغريب أنهم عندما أخرجوا الحجر كان نظيفاً، ولم يكن هناك أثر على أنه تم استخراجه من التربة، بل إنهم أخرجوه من المعبد، وكانوا يزعمون أنه كان معلقا في سقف المعبد، ويبدو حسب ما يظهر من تصريحاتهم أن هذا الحجر سقط من السقف وتصدع إلى ثلاث قطع قاموا بتجميعها ليكتشفوا هذا النص المذهل! فهل يعقل أنهم لم يكتشفوا هذا الحجر على مدى هذه السنوات الطويلة من التنقيب والبحث في هذه الآثار إلا في سنة 2014 ميلادية مع وضوح مكانه وبروزه! إن هذا حقيقة ليبعث على التعجب والاستغراب، وحقيقة يدفعنا إلى أن نقول أن جميع معطيات القصة تفيد أنها مفبركة، ولكن من قام بفبركتها لم يكن حاذقاً، فبدل أن يضع أسماء عربية وضع أسماءً رومانية ظناً منه أن أهالي جرش كانوا من الرومان، وبدل أن يدفن الأثر المزعوم في التربة استخرجه من مكان مكشوف، وبما أنه لا يستطيع أن يدعي اكتشاف هذا الأثر في وقت مبكر أدعى أنه للتو اكتشفه، ولكنه ادعاء مفضوح، إذ لا يعقل أنه مع تنقيبهم الدؤوب منذ سنوات للتو يكتشفون أثراً هاماً بمثل هذه الأهمية وبمكان مكشوف واضح مثل مكان هذا الحجر المزعوم !!

فجميع هذه القرائن تدل على أمر هام، وهو أن الكتابة مزيفة، فتم أخذ الحجر وإضافة هذه الكتابة إليه، كدليل أخر على انتماء هذه الحضارة إلى الرومان.

وأما الشهود الذين قدموا للشهادة على صحة هذا الحجر، فلا نستبعد أن يكونوا إما أنهم مغرر بهم، أو أنه تم شراءهم بالمال، وكما قلت سابقا لهم في ذلك دوافع كثيرة، إما أنهم يريدون بذلك المحافظة على الدعم المادي لأبحاثهم الآثارية، فقد سبق وأن قاموا بذلك وتم كشف تلك الحيل، وقد يكون المراد منه إثبات ملكية الرومان لهذه الآثار وبناء أمجاد زائفة. 

ومن هنا اطمئن قلبي إلى أن هذا الخبر مفبرك وأنه لن يكون حجر عثرة في سبيل هذا البحث.

فمن خلال جميع ما سبق، يتبين أنه لا يثبت تاريخياً أن الأنباط أو الرومان هم من شيّدوا الآثار الموجودة في الأردن والشام وفلسطين، بل ربما لم تكن للرومان يد في تشييد المباني التي تحمل نفس الطراز، والموجودة في أسيا الصغرى واليونان وإيطاليا وأسبانيا وشمال افريقيا.

وأن المرجح أن هذه البنايات يعود الفضل في تشييدها إلى قبيلة عاد، خصوصاً تلك التي في الأردن والشام وفلسطين؛ لأن جميع أوصاف مباني قبيلة عاد تنطبق عليها تماماً.

ومن السخرية حقاً أن يتم التلاعب بالتاريخ، بشكل متعمد أو غير متعمد، لنجد المؤرخين العرب، يتابعون مؤرخي الغرب في ما حاكوه عن مدينة جرش، حيث يزعم مؤرخي الغرب أن من أسس مدينة جرش هم الرومان، وأنهم أسموها: جراسا! ثم يقول مؤرخي الغرب والعرب معاً، أنه في هذا الوقت التي سماها فيه الرومان جراسا، كان كنعانيون يسمونها: جرش!

والحقيقة بخلاف هذا تماماً، فكما قدمنا أن جرش أسسها العرب، وأسموها جرش، وأن جرش اسم عربي، معناه: الموضع الكثيف الأشجار، والعرب لا زالوا في جنوب الجزيرة العربية يطلقون اسم جرش على بعض مدنهم، وأن الرومان هم من صحفوا نطق الاسم، فأسموها جراسا.

ومن السخرية أيضاً، أن نجد الباحثين، ينسبون آثاراً أكتشفت في مقبرة أثرية في موضع يقال له: كوم الشقافة قري بمن مدينة الإسكندرية، إلى الرومان، مع أن الآثار المتكشفة في المقبرة، جميعها أثار مصريّة بامتياز، لا يُشَكُّ في ذلك أحد ولا يمتري، لا لشيء؛ إلّا لأن الرومان امتد نفوذهم إلى الإسكندرية، وحموها برهة من الزمان!!

(صور من مقبرة كوم الشقافة)


ومثل ذلك أيضاً بنايات ذات أعمدة، فيها شبه قريب من الطراز الذي يطلقون عليه "الطراز الروماني" مع فارق واضح وكبير بينها وبين الطرازي الروماني المزعوم، ومع ذلك جعلوها من أثار الرومان في مصر، لمجرد هذا التشابه الطفيف، وكأن هؤلاء الباحثين، يسعون إلى تجرد المصريين من تاريخهم وآثارهم!! 

وأنا إذا أنقل هذا وأبيّنه وأنبّه عليه، لكي لا يأخذ الناس كلام الباحثين على محمل الجدّ، فالباحثون قد يخطئون عن غير عمد، وعن عمد أحياناً، لدوافع عديدة، ويبقى الماضي لغزاً وسراً لم نكتشف إلا الجزء اليسير منه، وأن ما نجده من أثار، وما ينقل لنا عنه من أخبار، أكثره تحليلات ظنيّة، أفرزتها مخيلات الباحثين، والمؤرخين، لا أكثر.

هذا والله أعلم أحكم.

صورة من مدينة جرش التاريخية














صور من مدينة البتراء













صور من مدينة تدمر










صور من بصرى الشام






وتقبلوا تحياتي

تعليقات

  1. تعليقي في نقاط سريعة :

    - أن بنيانهم منتشر في أصقاع متعددة وليس محصوراً في حدود مملكتهم (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)
    ممكن الجملة كذلك تسري على مرتفعات متعددة في مملكتهم، وهذا ما حدث بالضبط، فمصر فيها أكثر من 100 هرم كلها مبنية فوق هضاب مرتفعة ...

    - أن هذه المباني لا يوجد لها شبيه في أي مكان أخر من العالم، لا في مصر، ولا خارجها.
    لم أفهم هذه الجملة ... الأهرامات ليست هي ارم ذات العماد لكن هي جزء منها
    إرم ذات العماد تضم معابد الأقصر وأبو سمبل وأهرامات الجيزة، وأهرامات دهشور العملاقة، والتوابيت والمسلات .. كل شيء

    ثانيا أنه لا يُشترط أن تكون في ممر قوافل قريش .. وهل نزل القرآن لقريش فقط ؟ .. القرآن نزل للناس كافة ..
    فلما القرآن يقول وعاذا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم .. لا يعني وقد تبين لكم يا قريش من مساكنهم .. بل للبشر جميعا

    فالنقطتين محتاجين إعادة نظر

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا وبارك الله فيك تعليق مفيد وتنبيهات قيّمة

      حذف

إرسال تعليق